


طريق التصعيد: كيف وصلت المواجهة بين إيران وإسرائيل إلى نقطة الغليان
يونيو 19, 2025
A-
A+
انفجرت الخصومة الطويلة بين إيران وإسرائيل إلى مواجهة عسكرية مباشرة، في تحول تاريخي غير مسبوق في الشرق الأوسط. فبعد عقود من الصراع غير المباشر عبر العمليات السرية والحروب بالوكالة، جاءت سلسلة سريعة من الأحداث في عامي 2024 و2025 لتُسقط هذا الواقع الهش، وتنقل المواجهة من صراع منخفض الحدة إلى اشتباك عسكري مباشر. العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة ضد البنية التحتية النووية والعسكرية الإيرانية، ورد طهران السريع، وانزلاق المنطقة نحو حالة من عدم الاستقرار الشامل، كلها عوامل تثير تساؤلات جوهرية حول مستقبل الدبلوماسية والردع والأمن الإقليمي. هذا التقرير يستعرض كيف اندلعت هذه المواجهة بعد انهيار شبكة الوكلاء الإيرانية وتعثّر المفاوضات، وسط تحركات أميركية تشير إلى إمكانية انخراط واشنطن عسكرياً، ما ينذر بحرب إقليمية شاملة.
إسرائيل تضرب إيران في عملية “الأسد الصاعد”
في ساعات الفجر الأولى من يوم 13 يونيو/حزيران، شنت إسرائيل هجوماً واسع النطاق على الأراضي الإيرانية، تحت اسم “الأسد الصاعد”، بهدف تفكيك البرنامج النووي الإيراني ومخزون الصواريخ. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو العملية بأنها “وقائية”، مؤكداً أنها تهدف إلى تقويض قدرة إيران على إنتاج أسلحة نووية تشكل تهديداً وجودياً لدولة إسرائيل.
وشارك في العملية أكثر من 200 طائرة إسرائيلية، إلى جانب فرق كوماندوز وعناصر من جهاز الموساد. وداخل الأراضي الإيرانية، استخدم الكوماندوز الإسرائيلي طائرات مسيّرة مفخخة قصيرة المدى لتدمير أنظمة الدفاع الجوي وتعطيل قدرات إيران الدفاعية قبيل بدء الغارات الجوية. واستهدفت الضربات الجوية أكثر من 100 موقع، بما في ذلك منشآت عسكرية وبحثية نووية، وأسفرت عن اغتيال عدد من العلماء النوويين وقادة في الحرس الثوري الإيراني.
ردّت إيران بإطلاق دفعات من الصواريخ الباليستية على إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، استمرت الهجمات المتبادلة، وتصاعدت وتيرتها لتطال البنى التحتية الاقتصادية والمراكز السكنية، في تصعيد غير مسبوق يجعل من احتمال اندلاع حرب شاملة وطويلة بين إيران وإسرائيل أمراً واقعياً بعد أن كان مستبعداً.
انهيار عقيدة “الدفاع الأمامي”
لفهم التصعيد الحالي، لا بد من العودة إلى التحولات الاستراتيجية في السنوات الأخيرة. فقد بُنيت استراتيجية إيران الدفاعية المعروفة بـ”الدفاع الأمامي” على ركيزتين أساسيتين: “حزب الله” في لبنان ونظام بشار الأسد في سوريا. كان “حزب الله” أداة هجومية رئيسية لإيران بفضل ترسانته من الأسلحة الدقيقة، فيما شكلت سوريا عمقاً استراتيجياً وممراً لنقل الدعم العسكري.
غير أن هذا التوازن تزعزع بعد عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها “حماس” ضد إسرائيل. إذ انخرطت وكلاء إيران الإقليميون – بما في ذلك “حزب الله” – في جبهات متعددة ضد إسرائيل، وهاجموا القوات الأميركية لعرقلة دعم واشنطن لتل أبيب. لكن في 23 سبتمبر 2024، شنت إسرائيل حملة عسكرية مدمرة ضد “حزب الله”، قضت فيها على قياداته، ودمرت بنيته التحتية، وأضعفت قدراته القتالية بشكل كبير. وانتهت الحرب بهزيمة مذلة للحزب، وبتوسيع تطبيق القرار الأممي 1701 الذي وافقت عليه الحكومة اللبنانية بموافقة ضمنية من “حزب الله”.
ثم حوّلت إسرائيل تركيزها نحو سوريا، حيث تقدّمت قوات المعارضة من إدلب وحلب ودرعا والسويداء، ما أدى إلى سقوط نظام الأسد، الحليف الرئيسي لطهران. ردّت إسرائيل بشن أوسع حملة جوية منذ حرب أكتوبر 1973، دمرت خلالها أنظمة الصواريخ بعيدة المدى والقوة الجوية السورية، والأهم من ذلك دفاعاتها الجوية. ومع انهيار النظام السوري وتحوّل دمشق لموقف مناهض لإيران، تعطلت خطوط إمداد “حزب الله”، وأصبح بإمكان الطائرات الإسرائيلية التحليق بحرية في الأجواء السورية، ما سمح لها بالوصول بسهولة أكبر إلى العمق الإيراني.
تفكك شبكة الوكلاء الإيرانية
مع هذه التطورات، بدأت شبكة الوكلاء التابعة لإيران في المنطقة بالانهيار. فبعضها، كـ”حزب الله”، هُزم عسكرياً، بينما فضلت أطراف أخرى كفصائل من “الحشد الشعبي” العراقي النأي بنفسها عن المعركة. وبعد مقتل ثلاثة جنود أميركيين بهجوم بطائرة مسيّرة في “برج 22” بالأردن، أعلنت “كتائب حزب الله” العراقية وقف هجماتها على القوات الأميركية. وبالتدريج، تراجعت أغلب الميليشيات المدعومة من إيران أو اختفت من المشهد، ما أدى إلى تفكيك فعلي للعقيدة الإيرانية التي استغرق بناؤها عقوداً.
وساهمت سياسة ضبط النفس الإيرانية في هذا التراجع. فرغم الضربات الإسرائيلية المكثفة، اختارت طهران عدم التصعيد، وهو ما فُسّر في إسرائيل على أنه ضعف. هذا ما عكسته تصريحات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 24 سبتمبر 2024، حيث أكد أن بلاده “لا ترغب بأن تكون مصدر عدم استقرار في الشرق الأوسط”، مشدداً على أن “الحرب لا رابح فيها”، وأن إيران تُجر إلى نزاع لا تريده.
مفاوضات متعثرة
سعياً لتفادي الحرب، حاولت إيران العودة إلى مسار التفاوض مع الولايات المتحدة. حيث جرت لقاءات ثنائية في سلطنة عمان في أبريل، وصفتها واشنطن بأنها “إيجابية وبنّاءة”. واستمرت المحادثات، وفي 15 مايو/أيار، أعرب الرئيس دونالد ترامب عن تفاؤله الحذر، مشيراً إلى اقتراب التوصل لاتفاق نووي.
لكن الخلافات الكبرى ظلت عالقة. إذ طالبت واشنطن بوقف تخصيب اليورانيوم وتفكيك أجهزة الطرد المركزي، فيما شددت طهران على أن برنامجها النووي “شأن سيادي” لا يمكن التنازل عنه. ورغم وجود آمال بالتوصل إلى حل وسط يسمح بتخصيب منخفض النسبة، إلا أن المطالب الأميركية اعتُبرت في طهران بمثابة استسلام.
طريق محفوف بالمخاطر
مع تصاعد التوتر بين إسرائيل وإيران، يبدو المستقبل غامضاً. فقد غادر الرئيس ترامب قمة مجموعة السبع في كندا مبكراً للتشاور مع فريقه الأمني، وسط ضربات متبادلة تتسارع وتيرتها. وتشير تقارير إعلامية إلى أن واشنطن تدرس المشاركة في ضرب منشآت إيران النووية.
وكانت إسرائيل قد طلبت رسمياً من الولايات المتحدة الانضمام إلى الحرب، قائلة إن منشآت نووية محصنة مثل “فوردو” لا يمكن تدميرها دون دعم أميركي. فمع أن الضربات الإسرائيلية ألحقت أضراراً جسيمة، إلا أن المنشآت الحيوية لا تزال بعيدة عن متناول القنابل الإسرائيلية التقليدية. ما تحتاجه إسرائيل هو قاذفات B-2 الأميركية والقنابل الخارقة للتحصينات GBU-57A/B لإتمام المهمة.
ورغم تأكيد ترامب أن الدبلوماسية ما تزال خياراً مطروحاً، وعرضه إرسال نائبه جي دي فانس والمبعوث الخاص ستيف ويتكوف لاستئناف المفاوضات، إلا أنه وجّه تحذيراً للمدنيين في طهران بالإخلاء الفوري، في إشارة واضحة إلى أن الخيار العسكري لا يزال قائماً، مع استمرار تدفق القوات الأميركية نحو المنطقة.
وفي ظل هذا التصعيد المتسارع، يبقى احتمال اندلاع حرب إقليمية واسعة النطاق أمراً وارداً، ما لم يُكبح هذا الانفجار عبر حل دبلوماسي عاجل، قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة وتترك أثراً كارثياً على المنطقة والعالم.