المملكة العربية السعودية: دبلوماسية الحسم وصناعة السلام بدل وهم السلاح
أغسطس 1, 2025
A-
A+
في زمن تعجّ فيه المنطقة بالصراعات والانقسامات، برزت المملكة العربية السعودية كصوتٍ مختلف، لا يصرخ بل يُسمَع، لا يهدد بل يُقنِع، ولا يدخل في حروب عبثية بل يرسم ملامح سلام مستدام. من القضية الفلسطينية، إلى لبنان، فسوريا، وصولًا إلى النزاع الأوكراني-الروسي، تنتهج المملكة دبلوماسية واعية ترتكز على الحياد الفاعل، والمواقف المبدئية، والاشتباك الإيجابي مع العالم لا على قاعدة الانحياز، بل على قاعدة الممكن والعادل.
فلسطين أولاً: من حلم الدولة إلى مشروعية الاعتراف
لم تعد المملكة ترى في السلاح الفردي أو الجماعي وسيلة لتحرير فلسطين، ولا في الشعارات الثورية المجوفة طريقاً لإقامة الدولة. بل سلكت دربًا دبلوماسيًا استراتيجياً عبّر عنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حين جعل من الاعتراف بدولة فلسطين شرطًا أساسًا لأي تطبيع محتمل مع إسرائيل، لا للمملكة فحسب، بل لكافة الدول التي ترتبط بها بتفاهمات وتأثير.
هذا الشرط التاريخي لم يكن لفظيًا، بل تُرجِم فعليًا في مؤتمر نيويورك المشترك بين المملكة وفرنسا في تموز 2025، الذي حشد أكثر من 120 دولة حول طاولة الاعتراف بفلسطين، وأسفر عن موجة اعترافات أوروبية متتالية بدولة فلسطين على حدود عام 1967. إنه المؤتمر الذي غيّر قواعد اللعبة، وأحرج إسرائيل والولايات المتحدة أمام واقع جديد لا يمكن تجاوزه ولا إلغاؤه.
لم تدعم السعودية حماس عسكرياً كما فعلت دول أخرى صنعت الحروب وخذلت الناس، بل دعمت الشعب الفلسطيني بالمعونات والمساعدات الإنسانية العاجلة والثابتة، من دون أن تعترف بسلوك حماس كقيادة. فالمملكة وقفت مع الفلسطيني لا مع الحركة، ومع الحق لا مع الخطاب.
لبنان: السيادة قبل الإعمار، والسلاح الشرعي أولاً
منذ أكثر من ثلاثة عقود، كانت السعودية عرابة اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية. واليوم، تكرر الرياض هذا الدور التاريخي، لكن من زاوية أكثر عمقًا: لا إعمار في لبنان من دون نزع السلاح غير الشرعي. هذا هو موقفها الصريح في وجه حزب الله، الحليف المحلي للمحور الإيراني، والذي عطّل الدولة لعقود.
السعودية تدعم الدولة لا الدويلة. وقد ربطت أي التزام مالي لإعادة الإعمار بعد الأزمات المتكررة في لبنان بشرط واضح: سلاح واحد تحت راية الجيش اللبناني، وسيادة غير منقوصة. وهي، بالشراكة مع واشنطن، قادت الدفع باتجاه تسمية رئيس للجمهورية بحجم العماد جوزيف عون، ورئيس حكومة مستقل ووازن بحجم نواف سلام، وهي شخصيات ما كانت لتحظى بفرصة حقيقية في ظل هيمنة الممانعة.
سوريا: لا لبشار، نعم لسوريا الجديدة
لم تكن الرياض يومًا حليفة لبشار الأسد، لكنها أيضًا لم تنزلق إلى شعارات الفوضى. لعبت المملكة دورًا متوازنًا في دعم الشعب السوري سياسيًا وإنسانيًا، وكانت حاضرة في محطات دولية مفصلية لمحاسبة نظام الأسد أو لتحييد نفوذه.
واليوم، ساهمت المملكة في بلورة مشروع “سوريا الجديدة”، من خلال تفاهمات مع قوى إقليمية ودولية، أنتجت عن بديل للنظام يعكس إرادة السوريين، ويُبنى على توافق لا على تسوية مفروضة. والهدف ليس إسقاط النظام كشعار، بل إسقاط منظومة الاستبداد كفعل.
أوكرانيا وروسيا: السعودية تصنع الحلّ حين عجز الباقون
في نزاع معقّد لم تستطع أي دولة كبرى كبحه، برزت السعودية بدبلوماسيتها كوسيط موثوق. استضافت مؤتمرات تفاوض في جدة والرياض، ونجحت في إبرام اتفاقات تبادل أسرى بين موسكو وكييف، وسعت إلى وقف جزئي لإطلاق النار في أكثر من جبهة.
ولم تتوسّل المملكة القوة، ولا وقفت إلى جانب طرف ضد آخر. بل قدّمت نموذجًا من الحياد الفاعل، ما أعطاها ثقة الطرفين، ودورها بات معترفًا به دوليًا كوسيط بين أقطاب النزاع.
دبلوماسية الكلمة لا السلاح
في عصر يتنافس فيه كثيرون على منابر السلاح والخطابات النارية، تختار المملكة العربية السعودية الكلمة. وتختار أن تحكم لا أن تصرخ. لا تسعى لزعامة عسكرية ولا لأدوار وهمية، بل تقود المنطقة بأدوات التأثير الواقعي: الحوار، الفعل السياسي، والموقف الصلب حين يحين وقته.
سلاح السعودية اليوم ليس النفط، ولا المال، ولا حتى ثقلها الجغرافي. بل سلاحها قيادة شابة تتقن استخدام الفكرة والكلمة. هي التي تفرض شروطها في التطبيع، ترسم معايير السيادة، وتُسمع صوتها في النزاعات الدولية.
لم تعد المملكة راعية للمصالحة فقط. بل باتت شريكة في صناعة المستقبل.